لمن يبحث عن التفوق في الايمان
الرقي والتميز..
مطلب تبحث عنه النفوس، وتسعى وراءه العقول، وتهوى إليه الأفئدة .. لا يكاد يوجد إنسان على ظهر
الأرض إلا وهو يبحث عن التميز والتفرد المطلق والشعور بالتفوق على الآخرين.
ولا شك ..
أن هذا الشعور وهذا المطلب مطلب مشروع، ومن حق كل إنسان أن يكون كذلك، بل من حقه أن يسعى
للوصول إلى مطلبه، ما دام القصد مشروعا و الوسيلة مشروعة، أما إذا اختل القصد و فسدت النية والوسيلة
فقد انتفت المشروعية، ودخل صاحبها في متاهة مضلة ستتلوها متاهات ومتاهات وهلم جرا.
البحث عن الرقي او التميز ..
هو حديث نفسي إلي، وحديث نفسك إليك، و حديث نفسه إليه، و حديث النفوس السوية إلى أصحابها..
أما أصحاب النفوس الكسولة البليدة التي رضيت بواقعها و بظروفها وبحياتها ومعاشها فلا تفكر بذلك، ولا
ترغب حتى بالخوض فيه.. أما أنا وأنت، وهو ونحن جميعا فإننا لا نزال نفكر ونفكر، طويلا بحثا عن التفوق
والتميز والإبداع.
كيف أكون داعيا متميزا ؟؟ وكيف أكون عالما متميزا ؟؟
وكيف أكون أو تكون طبيبا أو مهندسا أو معلما أو موظفا أو زوجا أو أبا أو أخا أو صديقا أو جارا..
كيف يكون كل هؤلاء من المميزين؟ كيف نكون كذلك وكيف نصل إليه؟
لقد اختصر أبو الطيب المتنبي الموضوع، ودل الراغبين على طريق الوصول في بيت واحد..
فقال:
لولا المشقة ساد الناس كلهم .. ~ .. الجود يفقر والإقدام قتال
فالفرق ..
بين حياة السيادة والريادة والتميز والإبداع، وبين حياة البساطة والسكون والدعة والخمول هو تحمل المشقة
التي لولاها لساد الناس جميعا وتميزوا وظهروا ونبغوا وعلا شأنهم وذكرهم...
مشقة الجود والكرم والسخاء، و نداوة اليد والنفس، مع مشقة الإقدام والشجاعة والبطولة، مع مشقة الصبر
والتحمل والمواصلة والمثابرة.. هذه المشقات التي ميزت بين السادة والعبيد، وبين العمالقة والأقزام، وبين
أهل الكرم والبخلاء، وبين أهل البطولة والجبناء.
الجود ..
هو مظنة الفقر والحاجة، والإقدام مظنة القتل والموت، ولكن ذلك لا يعني شيئا لمن سمت نفسه للمعالي،
وسلك طريق المشقة والصعوبات، يبتغي بذلك أن يحيا سيدا وأن يموت سيدا كريما يصدق فيه
قول الشاعر:
لعمرك ما الرزية فقد مال .. .. ولا شاة تموت ولا بعير
ولكن الــرزية فـقــد حـــر .. .. يموت بموته خـلق كـثير
إذا.... فالتميز والتفوق هو اختيار واضح لطريق لا مجال فيه للراحة ولا للموادعة أو الخمول أو السكون،
بل هو طريق شاق فيه الجهد كله، وفيه التعب كله، وفيه السهر كله.. فيه لجم النفس والهوى والشيطان
بلجام من حديد صلب متين.
الرقي او التميز مطلب عظيم.. والمطالب العظيمة لا تتحقق بسهولة ويسر؟
وما نيل المطالب بالتمني .. .. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
التميز من جهة أخرى:
تعالوا ـ أحبابي ـ لننظر إلى الموضوع من جهة أخرى، من زاوية أعمق وأصدق وأبلغ.
أليس الوصول إلى الجنة هو الأمنية التي لا تدانيها أمنية، والمطلب الذي لا يعلوه مطلب؟
كيف حدثنا الله عنه؟
يقول الله جل وعلا:
{أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}.
والمعنى:
هل تريدون أن تحققوا أمنياتكم دون جهد وجهاد ومشقة وتعب وصبر وتحمل وجلد؟
هل تريدون الجنة وأنتم كما أنتم دون أن يمسكم ما مس الذين من قبلكم..
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ ۖ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
(البقرة: 214)
أمنية كمال الإيمان:
إننا مسلمون جميعا، ولله الحمد والمنة، ولكن من هو المؤمن منا ؟ ومن هو المتميز في إيمانه ؟
إن الوصول إلى الإيمان هو التميز الذي تنقطع دونه النفوس، وهو المطلب الذي تهون من أجله التضحيات،
وهو الغاية التي تبذل فيها ولها الشهور والأيام و الساعات واللحظات. و إن التميز الحقيقي هو التميز في
الإيمان.. إن التميز أن تكون مؤمنا حقا يصدق فيك
قول الله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا
وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
(الأنفال:2، 3)
إن حديث الإيمان..
أصبح اليوم حديثا مملا ومنفرا ومتعبا عند كثير من الناس.. يقول الناس هذا بألسنتهم، ويقولونه بأفعالهم،
ويقولونه بسلوكهم، ويقولونه وهم لا يدرون، وربما أيضا وهم يدرون.. ولكن الحقيقة التي يجب أن نعلمها
حيدا أن كل تميز أو إبداع أو تفوق ينقصه إيمان صادق ومؤثر وفاعل وحاكم على التصرفات والأقوال يصبح
تميزا دنيويا بحتا، وربما يصير أحيانا مفسدا ومخربا، أو لا أثر له ولا فائدة.
لابد من التساؤل:
إذا كنا نبحث عن التميز في الإيمان فإننا لابد أن نتساءل: أين ديننا ؟ أين إيماننا ؟ أين هي قلوبنا ؟
أين خوفنا من الله،؟ أين بكاؤنا من خشية الله؟..
يجب أن نتساءل:
أين الآيات التي حفظناها ؟ وأين الأحاديث التي رويناها ؟
وأين العلوم التي درسناها ؟ أين تلك المعارف ولماذا لا تملأ قلوبنا رقة وخوفا وانكسارا بين يدي الله ؟
لماذا أصبحت لا تغير طبعا؟ ولا تغير سلوكا؟ ولا تهذب لسانا؟
ولا تؤدب جارحة؟ ولا تزكي نفسا؟. صدق عبد الله بن مسعود حينما
قال:
"إنما العلم الخشية".
لقد روى البخاري ومسلم عن أنس
قال:
خطَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خطبةً ما سمِعتُ مثلَها قَطُّ
قال:
(لو تَعلَمونَ ما أعلَمُ لضَحِكتُم قليلا ولبَكيتُم كثيرًا).
قال:
فغطَّى أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وجوهَهم لهم خَنينٌ.
يعني من البكاء.. هذا وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
ونحن والله أحوج منهم إلى البكاء وفي أمس الحاجة إليه.
أعني بكثرة السجود
كان ربيعة بن كعب غلاما يصب الماء على النبي صلى الله عليه وسلم لكي يوضئه،
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
سلني!!
فقال ربيعة:
أسألك مرافقتك في الجنة..
فقال له عليه الصلاة والسلام:
أعني على نفسك بكثرة السجود.
إنها الحقيقة..
التي ينبغي الا تغفل أبدا.. إنه لا مجال للتميز، ولا مجال للوصول إلى الغايات إلا بالعمل الدؤوب،
أما التخليط والتخبط، أو السير في ركاب الكسالى والخاملين والغافلين والباردين فإنه لن يحقق أبدا
أمنية، ولن يحقق تفوقا، ولن يخلق تميزا، ولن يوصل إلى غاية...